في وسط الحرب الشرسة التي يشنها الاحتلال على قطاع غزة منذ ما يقرب من عام، خرجت الصحافة الإسرائيلية بسؤال مختلف وغير متوقع: هل لدى «ويكيبيديا» عداوة مع السامية (والمقصود هنا السامية التي تفترض إسرائيل أنها تمثلها). وقالت صحيفة «جيروزاليم بوست»، إنه يتم التلاعب بـ«ويكيبيديا» لاستهداف إسرائيل وهذا التلاعب المُشار إليه هو استخدام «ويكيبيديا» لمصطلح «الإبادة الجماعية» لوصف ما يحدث في قطاع غزة.
الصحيفة وصفت الأمر بالفضيحة، وأنها تدق المسمار الأخير في نعش «ويكيبيديا» بوصفها مصدراً موثوقاً للمعلومات عن إسرائيل واليهود. وقبل «جيروزاليم بوست» فإن صحيفة «يديعوت أحرونوت» الإسرائيلية قد أفردت مقالاً عن «ويكيبيديا»، وكيف قامت بتثبيت وجود «إبادة جماعية تمارسها إسرائيل في غزة»، وكما تقول الصحيفة، فإنه بهذه الصورة قد أصبحت الإبادة حقيقة ثابتة.
لا يدور المقال حول انحياز «ويكيبيديا» لطرفٍ ما من أطراف النزاع، لكن البدء بالصراع الدائر حول السردية لما يحدث في غزة، هدفه توضيح الدور المحوري وبالغ الخطورة التي صارت تلعبه «ويكيبيديا»؛ فلم تعد مجرد صفحات على الإنترنت تعطيك لمحة سريعة عن أشياء متفرقة، بل صارت من أركان العالم الجديد، ومن القوى الناعمة الضاربة.
تأسست «ويكيبيديا» في 15 يناير عام 2001، على يد جيمي ويلز ولاري سانجر، كجزء من مشروع أكبر يُعرف باسم «نيوبيديا» Nupedia، وهي موسوعة تعتمد على خبراء لتقييم المحتوى قبل نشره. ولكن بسبب بطء العملية التحريرية في نيوبيديا، جاء الحل من خلال تقديم منصة تحرير مفتوحة تسمح لأي شخص بالمساهمة فوراً دون المرور بالإجراءات الرسمية الطويلة. بالتالي تم استخدام تقنية «الويكي» التي تسمح للمستخدمين بتعديل المقالات بشكل مباشر، مما جعل «ويكيبيديا» موسوعة حية وقابلة للتوسع بسرعة. بدأت النسخة الإنجليزية أولاً ثم سرعان ما أُضيفت نسخ بلغات أخرى، لتصبح اليوم أكبر موسوعة إلكترونية في العالم.
تُعد «ويكيبيديا» مثالاً بارزاً على مفهوم المصدر المفتوح، وهي تعتمد على نموذج تحريري مفتوح يسمح لأي شخص في العالم بإضافة أو تعديل المحتوى. هذا المفهوم ينطلق من فكرة أن المعرفة يجب أن تكون متاحة للجميع من دون قيود مالية أو تعليمية. وكذلك فإن كل المقالات في «ويكيبيديا» مرخصة تحت رخصة المشاع الإبداعي، مما يعني أنه يمكن لأي شخص استخدام محتواها وإعادة توزيعه طالما يذكر المصدر.
هذا النموذج يضع «ويكيبيديا» في مكانة خاصة مقارنة مع الموسوعات التقليدية التي كانت تتطلب ميزانيات كبيرة وتستغرق سنوات لتحديث المعلومات. بدلاً من ذلك، يمكن للمستخدمين تحديث المحتوى فوراً على «ويكيبيديا»، مما يجعلها أكثر ديناميكية وتفاعلية. ومع ذلك، يأتي هذا المفهوم مع تحديات تتعلق بالدقة والموثوقية؛ إذ إن أي شخص يمكنه تحرير المحتوى، مما يتطلب إشرافاً من المجتمع للتحقق من صحة المعلومات.
لهذا تحرص «ويكيبيديا» على الشفافية؛ إذ يمكن لأي شخص رؤية تاريخ التعديلات لكل مقالة ومعرفة من قام بتحريرها. كذلك، تتم مناقشة الخلافات بين المستخدمين حول محتوى المقالات في صفحة النقاش المخصصة لكل مقال، مما يسهم في خلق بيئة تعاونية تهدف إلى تحسين المقالات وتحديثها باستمرار.
في عام 2005 قامت دورية «نيتشر» المرموقة بإجراء دراسة حول موثوقية «ويكيبيديا». الفكرة ببساطة أن فريقاً من المتخصصين قام بدراسة 42 موضوعاً علمياً عبر «ويكيبيديا» من جهة، وعبر الموسوعة البريطانية من جهة أخرى. ثم قاموا بمقارنة أخطاء الموسوعتين. المفاجئ في الدراسة أنه في الموسوعة البريطانية وُجد ما مجموعه 162 خطأ، بمعدل 3.8 خطأ للمقالة الواحدة. بينما في «ويكيبيديا» كانت الأخطاء 123 فقط، بمعدل 2.9 خطأ لكل مقالة. مما يعني أن «ويكيبيديا» لم تتساوَ مع الموسوعة البريطانية فحسب، بل تفوقت عليها.
لكن رغم النجاح الذي حققته «ويكيبيديا»، فإنها تواجه عدداً من التحديات والانتقادات خصوصاً في الأوساط الأكاديمية المتخصصة، تأتي الموثوقية على رأس هذه الانتقادات، فبما أن أي شخص يمكنه تحرير المقالات، فإن هناك دائماً احتمالاً لوجود معلومات غير دقيقة أو متحيزة. على الرغم من أن المجتمع يحاول تحسين المقالات والتأكد من دقتها، فإن المشكلات المتعلقة بالدقة قد تظل قائمة في بعض الحالات.
ونظراً لاعتماد الموسوعة بشكل كامل على الأفراد، مما أعطاها نقطة قوة، فإنها أيضاً تُعتبر من نقاط الضعف. فالتحيز من أبرز الانتقادات التي تواجهها «ويكيبيديا». هذا التحيز تجده في بعض المقالات التي تعكس التحيزات الثقافية أو الجغرافية لمحرريها. مما يخلق بالتبعية صراعات بين الطوائف أو الأفراد مختلفي التوجهات في ما يتعلق بمسألة معينة.
لذا تعاني «ويكيبيديا» من عمليات متكررة لما يُمكن تسميته تخريب الموسوعة؛ ففي البداية يحاول الأفراد تعديل المعلومة التي لا تُعجبهم، أو يرونها غير منصفة بحقهم، وحين يفشلون في تلك النقطة فإنهم يلجئون لإغراق الموسوعة بمعلومات غير صحيحة أو مضللة. تعتمد «ويكيبيديا» على جهود المجتمع وتقنيات الأتمتة لمراقبة هذه الأنشطة، لكن بعض الأخطاء قد تمر دون ملاحظة لفترة من الزمن.
المفاجئ أنه رغم الاحتقار الأكاديمي الرسمي أو بكلمات أقل حدة، عدم الاعتراف المؤسسي بموثوقية المنصّة، فإنه على مستوى أفراد المؤسسات والأكاديميات البحثية لا يستطيع أحد إنكار الدور الكبير الذي تلعبه «ويكيبيديا» في تقديم المعلومات الأولية للباحثين والطلاب.
إذ يستخدمها عدد من الباحثين كنقطة انطلاق للحصول على فكرة عامة عن موضوع ما قبل الانتقال إلى المصادر الأكاديمية الأكثر تفصيلاً. كما أن «ويكيبيديا» تساعد في توفير معلومات شاملة وسريعة عن مواضيع حديثة أو غير متداولة بشكل واسع في الكتب أو المصادر الأكاديمية.
لذلك نجد أن المؤسسات الأكاديمية بدأت في تبني موقف أقل صرامة في رفض وجود «ويكيبيديا» في محاربها العلمية. فمن جهة لا تشجع الجهات العلمية على استخدام «ويكيبيديا» مصدر رئيسي في الأبحاث الأكاديمية، إلا أنها تعترف بأهميتها في توجيه الباحثين نحو مصادر موثوقة عن طريق الإحالات والمراجع الموجودة في المقالات.
سؤال التمويل هو السؤال الأول الذي يُطرح كلما بزغت شمس منصة جديدة أياً كان محتواها، أو مستوى تأثيرها أو جمهورها. وبالتأكيد يصبح هذا السؤال أكثر إلحاحاً إذا كنا نتحدث عن موسوعة تحتوي على ملايين المقالات بأكثر من 300 لغة حول العالم، مما يجعلها الموسوعة الأكبر عبر التاريخ.
تُدار «ويكيبيديا» بواسطة مؤسسة «ويكيميديا»، وهي منظمة غير ربحية تعتمد بشكل كامل على التبرعات من الأفراد والمؤسسات. هذه البنية التمويلية تسمح لـ«ويكيبيديا» بالبقاء مستقلة وغير متأثرة بالجهات التجارية أو الإعلانية، وهو ما يعزز من مصداقيتها وشفافيتها. لكن بالطبع يوجد جانب خفي من التبرعات يصل من جهات لا تهدف بتبرعاتها إلى نشر العلم، بقدر ما تسعى إلى السيطرة على منبع المعلومات التي يصب في عقل كل إنسان حالياً.
لكن طريقة التعديل المتاحة للغالبية، وقدرة الأفراد العاديين على التحرير والتصحيح، تقلل من تأثير ضغط اللوبيّات أو الجماعات عبر قطع التمويل أو ترشيد تبرعاتهم في لحظات معينة. أو في حالة حدوث جدل حول موضوع معين.
لا تختلف الموضوعات الجدلية على «ويكيبيديا» عن الموضوعات الجدلية في حياتنا اليومية؛ فـ«ويكيبيديا» ليست إلا صدى لما يتبناه محرروها. وقد يتحول الجدال أحياناً إلى حروب شرسة حول التعديلات، الأمر الذي دفع «ويكيبيديا» ومتابعيها إلى صياغة مصطلح خاص بتلك النوعية من الصراعات باسم «حرب المُحررين».
من أبرز الموضوعات الجدلية في «ويكيبيديا»، مقالة «المحرقة النازية» أو «الهولوكوست». تعد تلك المقالة واحدة من أكثر المقالات إثارة للجدل على «ويكيبيديا» بسبب الإنكار والتشكيك من بعض الأطراف. يتم تعديل هذه المقالة بشكل متكرر للتأكد من دقة المعلومات ومصداقيتها، مع التركيز على منع نشر أي محتوى يحاول إنكار المحرقة أو تحريف الحقائق التاريخية المرتبطة بها.
وكما ذُكر في بداية المقال فإن الصراع العربي الإسرائيلي هو الآخر من أبرز الموضوعات المثيرة للجدل على المنصة. فالمقالة المعنونة باسم «الصراع العربي الإسرائيلي» تشهد جدال المستخدمين حول الأحداث التاريخية وتفاصيل النزاع. وبسبب التوتر السياسي والثقافي بين الأطراف المعنية، تشهد المقالة تعديلات متعددة من محررين ذوي آراء متباينة حول الأحداث والحقائق التاريخية.
كذلك تحدث جدالات سنوية ودورية على المقالة التي تتحدث عن أحداث الـ11 من سبتمبر 2001، وقد شهدت المقالات التي تتعلق باللقاحات، وخصوصاً بعد جائحة «كوفيد-19»، جدالات كبيرة بين المؤيدين والمعارضين لاستخدام اللقاحات.
ختاماً، لقد تجاوزت «ويكيبيديا» الزمن، وفرضت نفسها أمراً واقعاً على العالم أجمع. وباتت هي أول نتيجة ظهور في عديد من محركات البحث، ويزورها نصف مليار زائر شهرياً في مختلف الموضوعات. هذه الحصة المهولة التي تلتهما «ويكيبيديا» من الباحثين عن المعلومات، تشير بضرورة تجاوز الحديث عن موثوقية المنصة وأهميتها، إلى ضرورة وجود منفذ على تلك الموسوعة لكل صاحب فكرة أو لكل صاحب سردية يريد نقلها للعالم، وتنظيم هذا الأمر.